فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب‏}‏ أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏ وقيل‏:‏ عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ لما نزل ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ قال ناس‏:‏ إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ فقال أناس من أهل الضلالة‏:‏ هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ‏}‏ أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن؛ ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضى الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية وهم بيت الكذب عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر ‏{‏لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ‏}‏ أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن جابسه كما يرشد إليه ما بعد‏.‏

‏{‏أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ‏}‏ ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي ‏{‏لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ‏}‏ أي أنه لا يرفعه رافع أبداً، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب بمصروفا الواقع خبر ليس، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتدّ به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وءلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون‏.‏ والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 9‏]‏ كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهباً مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقاً، وأيضاً المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل‏:‏ إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقاً بيخافون محذوفاً أي ألا يخافون يوم الخ، وقيل‏:‏ هو مبتدأ لا متعلق بمصروفاً ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏

‏{‏هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافاً بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه بمصروفا نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر‏:‏ فيأبى فما يزداد إلى لجاجة *** وكنت أبياً في الخنى لست أقدم

وَحَاقَ بِهِم‏}‏ أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو كزل وزال‏.‏ وذم وذام والمراد يحيق بهم‏.‏

‏{‏مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلاً لمكانه، وإشعاراً بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاءاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ أي أعطيناه نعمة من صحة‏.‏ وأمن‏.‏ وجدة‏.‏ وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالاذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ‏{‏ثُمَّ‏}‏ أي سلبنا تلك الرحمة ‏{‏الكتاب مِنْهُ‏}‏ صلة النزع، والتعبير به للاشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ شديد اليأس كثيره قطوع رجاءه من عود مثل تلك النعمة عاجلاً أو آجلاً بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به‏.‏

‏{‏لَيَئُوسٌ كَفُورٌ‏}‏ كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أذقناه نَعْمَاء‏}‏ كصحة‏.‏ وأمن‏.‏ وجدة ‏{‏بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ‏}‏ كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم‏:‏ إنه ينبغي أن تجعل من في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏ للتعليل أي نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، و‏{‏مِنْهُ‏}‏ مشيراً إلى هذا المعنى ومنطبقاً عليه كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ ولا يخفى أن تفسير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول باعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيهاً على سبق الرحمة على الغضب واعتناءاً بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم اللاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة‏.‏

وذكر البعض أن في لقظ الإذاقة والمس بناءاً على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيهاً على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء ‏{‏لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي‏}‏ أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها ‏{‏إِنَّهُ لَفَرِحٌ‏}‏ بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرىء ‏{‏فَرِحَ‏}‏ بضم الراء كما تقول‏:‏ ندس‏.‏ ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فرحين بما آتاهم الله من فضله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 170‏]‏ ‏{‏فَخُورٌ‏}‏ متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في ‏{‏لَئِنْ‏}‏ في الآيات الأربع موطئة للقسم، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله‏:‏ لئن عادلي عبد العزيز بمثلها *** وأمكنني منها إذن لا أقيلها

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ استثناء من ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏ وهو متصل إن كان أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفاً لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقاً، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج‏.‏ والأخفش، وأيًا مّا كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقاً أو لاحقاً إيماناً بالله تعالى واستلام لقضائه تعالى‏:‏

‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ شكراً على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف‏:‏ لما تضمن اليأس عدم الصبر‏.‏ والكفران عدم الشكر كان المستنثى من ذلك ضده ممت اتصف بالصبر والشكر فلما قيل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين‏}‏ الخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكني بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله‏:‏ إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن بشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض بشيخه الطيبي بقوله‏:‏ وأما دلالة ‏{‏صَبَرُواْ‏}‏ على أن العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان‏:‏ نصف صبر‏.‏ ونصف شكر، ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل‏:‏ إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه لكن القول ما قالت حذام لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبا اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة ‏{‏لَهُم مَّغْفِرَةٌ‏}‏ عظيمة لذنوبهم ما كانت ‏{‏وَأَجْرٌ‏}‏ ثواب لأعمالهم الحسنة ‏{‏كَبِيرٌ‏}‏ وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السموات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل‏:‏ وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ إن وجه التعلق من حيث أن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث أن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل‏:‏ إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد‏.‏ والثاني أقرب، والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه ‏{‏الر كِتَابٌ‏}‏ أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ في العالم الجزئي وجعلت مبنية معينة بقدر معلوم ‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ‏}‏ فلذا أحكمت ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ فلذا فصلت، وقد يقال‏:‏ الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ أحكامها على أبدان العاملين، وقيل‏:‏ ‏{‏أُحْكِمَتْ‏}‏ بالكرامات ‏{‏ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ بالبينات ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة ‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ‏}‏ عقاب الشرك وتبعته ‏{‏وَبَشِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏ بثواب التوحيد وفائدته، وقيل‏:‏ ‏{‏نَّذِيرٍ‏}‏ بعظائم قهره ‏{‏وَبَشِيرٌ‏}‏ بلطائف وصله ‏{‏وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم ‏{‏ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ ارجعوا بالفناء ذاتاً، وقيل‏:‏ ‏{‏استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ من الدعاوي ‏{‏وَتُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ من الخطرات المذمومة ‏{‏يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا‏}‏ بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال‏:‏ المتاع الحسن صفاء الأحوال‏.‏ وسناء الأذكار‏.‏ وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق‏.‏ وظهور اللطائف‏.‏ والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال‏:‏ مناي من الدنيا لقاؤك مرة *** فإن نلتها استوفيت كل منائيا ‏{‏إلى

أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو وقت وفاتكم ‏{‏وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ‏}‏ بالسعي والاجتهاد وبذل النفس ‏{‏فَضْلِهِ‏}‏ في الدرجات والقرب إليه سبحانه؛ ويقال‏:‏ ‏{‏يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ‏}‏ في الاستعداد ‏{‏فَضْلِهِ‏}‏ في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال‏:‏ يحقق آمال من أحسن به ظنه ‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي ‏{‏فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏ وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ‏}‏ يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة ‏{‏لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ‏}‏ تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز

‏{‏أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 5‏]‏ من الأقوال والأفعالوسائر الأحوال، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا يُسِرُّونَ‏}‏ من الخطرات ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ من النظرات، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا يُسِرُّونَ‏}‏ بقلوبهم ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ بأفواههم، وقيل‏:‏ مَا يُسِرُّونَ بالليل وَمَا يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى ‏{‏وَمِنَ الناس مَن جَعَلَ‏}‏ ضمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام، وأياً مّا كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل‏.‏

وقال بعض أرباب الذوق‏:‏ إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضاً فتفطن ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا‏}‏ أي ما تتغذى به شبحاً وروحاً، ويقال‏:‏ لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار؛ ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضاً رزق محسوس‏.‏ ورزق معقول يعلمه الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ فمستقر الجميع أصلاب العدم ‏{‏وَمُسْتَوْدَعَهَا‏}‏ أرحام الحدوث ‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ وما في كل ‏{‏فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء‏}‏ أي كان حياً قيوماً كما قال ابن الكمال‏.‏

وقيل‏:‏ الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ‏}‏ قبل خلق السموات والأرض بالذات لا بالزمان مستعلياً على المادة فوقها بالرتبة، وقيل‏:‏ غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل‏:‏ خلق سموات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستولياً عليه متعلقاً به تعلق التصوير والتدبير ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ قيل‏:‏ جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء ‏{‏أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏ الخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقاً بربه تعالى متوكلاً عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجوداً وعدماً، فإن آتاه رحمة شكره أولاً‏:‏ برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه‏.‏

وثانياً‏:‏ باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثاً‏:‏ بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ وإلى ذلك أشار من قال‏:‏ أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا

وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولايتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر ‏{‏إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلاً عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر ‏{‏وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 11‏]‏ من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ‏}‏ أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل‏:‏ إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشانئية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحى إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل‏:‏ إن لعل هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب‏:‏ لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل‏:‏ إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث ‏"‏ لعلنا أعجلناك ‏"‏ واختار السمين‏.‏ وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفاً، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحى إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل‏:‏ لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد‏.‏ والضرب‏.‏ والطعان لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال صح لكن في «الكشف» بعد كلام‏:‏ إعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذا السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ تقض العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا‏:‏ إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَضَائِقٌ بِهِ‏}‏ لما يوحي أن للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل‏:‏ للتبليغ أو للتكذيب، وقيل‏:‏ هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف ‏{‏وَضَائِقٌ‏}‏ قيل‏:‏ عطف على ‏{‏تَارِكٌ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَدْرَكَ‏}‏ فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبراً مقدماً و‏{‏صَدْرَكَ‏}‏ مبتدأ والجملة معطوفة على ‏{‏تَارِكٌ‏}‏، وقيل‏:‏ يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى ضائق اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلى الله عليه وسلم أحياناً، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد‏.‏

وجواد‏.‏ وسمين مثلاً‏:‏ سائد‏.‏ وجائد‏.‏ وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه‏:‏ بمنزلة أما اللئيم ‏(‏فسامن‏)‏‏}‏ *** بها وكرام الناس باد شحوبها

وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل‏:‏ إن العدول لمشاركة ‏{‏تَارِكٌ‏}‏ وليس بذلك‏.‏

‏{‏أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ‏}‏ أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطى ذلك ليتحقق عندنا صدقه‏.‏

‏{‏أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ‏}‏ يصدقه لنصدقه، روي أنهم قالوا‏:‏ اجعل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولاً فنزلت، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلاً من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا أقدر على ذلك فنزلت، وقيل‏:‏ القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل ‏{‏أَن يَقُولُواْ‏}‏ نصب‏.‏ أو جر وكان الأصل كراهة‏.‏ أو مخافة ‏{‏أَن يَقُولُواْ‏}‏ أو لئلا‏.‏ أو لأن‏.‏ أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا‏:‏ إن المضارع بمعنى الماضي، و‏{‏ءانٍ‏}‏ المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول؛ واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا الخ فإن على مقتضاها، ولا يرد شيء ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ‏}‏ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم ‏{‏والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ‏}‏ أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل‏:‏ منسوخة، وقيل‏:‏ محكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم ‏{‏ما يوحي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل‏.‏ والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن ‏{‏الارض أَمْ‏}‏ متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأياً مّا كان فالضمير البارز في ‏{‏افتراه‏}‏ لما يوحى ‏{‏قُلْ‏}‏ إن كان الأمر كما تقولون ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ أنتم أيضاً ‏{‏بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ‏}‏ في البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل‏:‏ مثل وإن كان مفرداً يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظراً إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏ وقد يطابق كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏، وقيل‏:‏ إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل‏:‏ إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضاً عشر ليس بصيغة جمع فيعطي حكم المفرد ك ‏{‏نخل منقعر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 20‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مفتريات‏}‏ نعت آخر لسور قيل‏:‏ أخر عن نعتها بالمماثلة لـ ‏{‏ما يوحى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ‏}‏ مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادىء ذلك فيكم من ممارس الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم‏.‏

والكثير على أن هذا التحدي وقع أولاً فلما عجزوا تحداهم ‏{‏بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ‏}‏ كما نطقت به سورة البقرة‏.‏ ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولاً وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدري بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن‏.‏

وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل الشعر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني‏.‏ وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد، ثم قال‏:‏ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال‏:‏ بل نزلت سورة يونس أولاً‏.‏

ثم نزلت سورة هود‏.‏

وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ووجه ذلك بأن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في «الكشف»، وقال‏:‏ إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى‏.‏

وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام وتحداهم أولاً بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله‏:‏ ولا يزيل الريب الخ منعاً ظاهراف، وللعلامة الطيبي ههنا كلام زعم أنه الذي يقتضيه المقام وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف‏.‏

هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقاً وإن كذباً، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به‏.‏

‏{‏وادعوا مَنِ استطعتم‏}‏ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون‏.‏ والكهنة الذين تلجأون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك‏.‏

‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضاً يستلزم قدرتكم عليه، وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوف دل عليه المذكور قبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ‏}‏ الخطاب على ما روي عن الضحاك للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه ‏{‏فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله‏}‏ أي ما أنزل إلا ملتبساً بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل‏:‏ وهو معنى قول من قال‏:‏ أي ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه‏.‏

وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26‏]‏ والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل‏:‏ ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل‏:‏ فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل ‏{‏فاعلموا‏}‏ الخ أو من حيث أن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح‏.‏

وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقضي منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه‏:‏ إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُنزِلِ بِعِلْمِ الله‏}‏ مشكل أيضاً إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سبباً في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏ حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير ‏{‏فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ‏}‏ مصحوباً بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل‏:‏ من شدة الظهور الخفاء ‏{‏وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي واعلموا أيضاً أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلانه ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولاً أولياً، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جىء بالفاء، وفي التعبير بمسلمون دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قبل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل‏:‏ وفي ذلك أيضاً إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في ‏{‏لَكُمْ‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى

‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الإفراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضى، ومن ذلك‏:‏ وإن شئت حرمت النساء سواكم *** والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ وعبر بالاستجابة إيماءً إلى أنه صلى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد؛ وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب‏.‏

والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى ‏{‏مُّسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي‏.‏ وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏ وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضاً بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضاً، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول‏.‏

ومن هنا استظهره أبو حيان‏.‏ واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب فالم في المصحف على ما قال الأجهوري بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي «البحر» أن ما يحتمل أن تكون مصدرية أي أن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي أن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفاعل نزل ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون ما موصولة على قراءة الجمهور أيضاً، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ‏}‏ أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر ‏{‏الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏}‏ أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال ‏{‏كَانَ‏}‏ للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلاً ‏{‏نُوَفّ إِلَيْهِمْ أعمالهم فِيهَا‏}‏ أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل‏:‏ الأعمال عبارة عن الأجور مجازاً، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، و‏{‏نُوَفّ‏}‏ متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل‏:‏ إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون يوف بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى، وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول، ورفع ‏{‏أعمالهم‏}‏ والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 20‏]‏ وحكى الفراء أن ‏{‏كَانَ‏}‏ زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط ‏{‏يُرِيدُ‏}‏ وكان يكون مجزوماً، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضياً من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله‏.‏

ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلاً لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان‏:‏ كون الجزاء في نية التقديم‏.‏ وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصاً فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيراً، ومنه‏:‏

وإن أتاه خليل يوم مسغبة *** يقول‏:‏ لا غائب مالي ولا حرم

‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ‏}‏ أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور للحياة الدنيا وقيل‏:‏ الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكراراً بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب‏:‏ هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك كما قال بعض المحققين بناءاً للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلاً لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه‏:‏

‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير نجس، أو باعتبارهما معاً، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال ‏{‏الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار‏}‏ لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها؛ وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئاً آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد‏.‏

‏{‏وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا‏}‏ أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق بحبط و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقاً بصنعوا و‏{‏مَا‏}‏ على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل‏:‏ لجزائهم عليها في الدنيا ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ هو تأكيد لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حَبِطَ‏}‏ الخ، والظاهر أنه حمل ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ على معنى ‏{‏مَا صَنَعُواْ‏}‏ والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط‏.‏

ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال‏:‏ كأن كلاً من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، و‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية، ثم قال‏:‏ ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبىء عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلاً بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءً إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى‏.‏

ويحتمل عندي على بعد أن يراد بما كانوا يعملون هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان بكان فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأياً مّا كان فالظاهر أن ‏{‏باطل‏}‏ خبر مقدم و‏{‏إِلَيْكَ مَا كَانُواْ‏}‏ هو المبتدأ، وجوز في «البحر» كون ‏{‏باطل‏}‏ خبراً بعد خبر، و‏{‏فِى مَا‏}‏ مرتفعة به على الفاعلية، وقرىء وبطل بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقاً، وقرأ أبي‏.‏

وابن مسعود وباطلاً بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ‏{‏مَا‏}‏ سيف خطيب وباطل مفعول ليعلمون وفيه تقديم معمول ‏{‏كَانَ‏}‏ وفيه كتقديم الخبر خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40‏]‏ ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوباً بيعملون و‏{‏مَا‏}‏ إبهامية صفة له أي باطلاً أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدراً بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و‏{‏مَا‏}‏ اسم موصول فاعله أي بطل بطلاناً الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجاً في قول الفرزدق‏:‏

ألم ترني عاهدت ربي وأنني *** لبين رتاج قائماً ومقام

عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما *** ولا ‏(‏خارجاً‏)‏ من في زور كلام

فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجاً، وفي ذلك على ما في «البحر» إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد كما قال ابن عطية أنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي‏:‏ هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل‏:‏ في أهل الرياء يقال لقارىء القرآن منهم‏:‏ أردت أن يقال‏:‏ فلان قارىء، فقد قيل‏:‏ اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق‏.‏ والمقتول في الجهاد‏.‏ وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال‏:‏ صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ وعليه فلا بد من تقييد قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار‏}‏ بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقاً وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلاً لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضى بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلاً فتدبر‏.‏

ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في «مجمع البيان» أنه سبحانه لما قال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏‏؟‏ فكأن قائلاً قال‏:‏ إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏ الخ، أو يقال‏:‏ إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سبباً لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظناً منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏ الخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي «البحر» في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال‏:‏ والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجاً أولياً فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلاً وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلاً اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما الأعمال بالنيات ‏"‏ وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولاً أولياً، واقتصر عليه بعضهم بناءاً على أنه المناسب لما بعد، وأصل البينة كما قيل‏:‏ الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقاً، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل‏:‏ إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ أي يتبعه ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو كما قال الحسين بن الفضل الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعاً له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلاً بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏.‏ وكذا الضمير في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه‏.‏

وجوز أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهاد، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين‏.‏

وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضاً إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين‏.‏ ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر أبو مسلم‏.‏ وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذٍ إما بيانية‏.‏ وإما تبعيضية بناءاً على أن القرآن ليس كله شاهداً وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي‏.‏ والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعاً للأول على ما قيل‏:‏ إنه موافق له لا يخالفه أصلاً، ومن هنا قالوا‏:‏ إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية‏.‏

ودلالة الثاني ظنية غالباً للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال‏:‏ إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو‏.‏

وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والنخعي‏.‏ والضحاك‏.‏ وعكرمة‏.‏ وأبي صالح‏.‏ وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام ويتول من التلاوة لا التلو، وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه كما قال ابن حجر خاص بجبريل عليه السلام، وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل‏:‏ لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير يتلوه للقرآن‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك؛ وكذا الملك من معانيه، ويتلو حينئذٍ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير ‏{‏مِنْهُ‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم بناءاً على أنه المراد بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل‏:‏ الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخايله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل‏:‏ ما نزل فيك‏؟‏ قال‏:‏ أما تقرأ سورة هود ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ‏}‏ الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد منه»، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله، وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ أنا ‏{‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ‏}‏ علي»‏.‏

وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن علياً كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى سماه شاهداً كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 8‏]‏ والمراد ‏{‏شاهدا‏}‏ على الأمة كما يشهد له عطف ‏{‏مُبَشّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم، وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعد دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباءً عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏

وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ إن الناس يزعمون في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ‏}‏ أنك أنت التالي‏؟‏ قال‏:‏ وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفاً وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة‏.‏

ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف يتلوه احتمالان‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني‏:‏ أن يكون على جملة ‏{‏كَانَ‏}‏ ومرفوعها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ عطف على ‏{‏شَاهِدٌ‏}‏ والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالاً من الكتاب أي ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ في التصديق ‏{‏كِتَابُ موسى‏}‏ منزلاً من قبله، وحاصله ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل‏:‏ وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفاً لازماً له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز كما اختاره بعض المحققين وقد يقال‏:‏ إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضاً، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناءً على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى‏.‏

وأوجب بعضهم كون ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي‏.‏ وغيره ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ بالنصب على أنه معطوف على مفعول يتلوه أو منصوب بفعل مقدر أي ويتلو كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ‏}‏ على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ‏}‏

‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيهاً على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتلوه‏}‏ استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام ‏{‏لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً‏}‏ أي مؤتماً به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب ‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحداً من عظماء الدين؛ فالضمير للقرآن، وقيل‏:‏ إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خالياً عن الفائدة، وقيل‏:‏ إنه للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمن يَكْفُرْ بِهِ‏}‏ أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها ‏{‏مّن الاحزاب‏}‏ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقاً فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود‏.‏ والنصارى، وقال السدي‏:‏ هم قريش، وقال مقاتل‏:‏ هم بنو أمية‏.‏ وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي‏.‏ وآل أبي طلحة بن عبيد الله ‏{‏فالنار مَوْعِدُهُ‏}‏ أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 16‏]‏ وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان‏:‏ أوردتموها حياض الموت ضاحية *** فالنار موعدها والموت لاقيها

وفي جعل النار موعداً إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب ‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غبَّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأياً مّا كان فالخطاب إن كان عاماً لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو بيان لأنه ليس محلاً للشك تعريضاً بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلى الله عليه وسلم، وقرأ السمعي‏.‏

وأبو رجاء‏.‏ وأبو الخطاب السدوسي‏.‏ والحسن ‏{‏مِرْيَةٍ‏}‏ بضم الميم وهي لغة أسد‏.‏ وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز ‏{‏أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ أي الذي يربيك في دينك ودنياك ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم و‏{‏الناس‏}‏ على ما روى عن ابن عباس أهل مكة، قال صاحب الفينان‏:‏ جميع الكفار، هذا والهمزة في ‏{‏أَفَمَنِ‏}‏ قيل‏:‏ للتقرير ومن مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري ولعله الأولى خلافه حيث قال‏:‏ المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في «الكشف» أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏ الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلاً عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 18‏]‏ وأما إنها عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏ فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏ الخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضاً فيما ذكر من الإيمان بالقرآن‏.‏ والتوحيد‏.‏ والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏ وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ‏}‏ ولا بينة له على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقولهم لآلهتهم‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأياً مّا كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساوياً في الظلم على ما تقدم ‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء ‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ من حيث أنهم موصوفون بذلك ‏{‏على رَبّهِمْ‏}‏ أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل‏:‏ إيماءً إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أرباباً من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على رَبّهِمْ‏}‏ ويفوض من يقف على الله‏.‏

وقيل‏:‏ هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالإشهاد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الاشهاد‏}‏ وتفسيرهم بالملائكة مطلقاً هو المروى عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل‏:‏ المراد بهم الملائكة‏.‏ والأنبياء‏.‏ والمؤمنون، وقيل‏:‏ جوارحهم، وعن مقاتل‏.‏ وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب‏.‏ وأصحاب بناءاً على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة ‏{‏هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا‏:‏ هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذماً لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما أخرجه الشيخان‏.‏

وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له‏:‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ أتعرف ذنب كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال‏:‏ فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار‏.‏ والمنافقون فيقول‏:‏ الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذٍ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء‏.‏ والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولاً أولياً، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران قال‏:‏ إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم‏.‏

وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضاً، وأياً مّا كان فهؤلاء الذين مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ، و‏{‏الذين‏}‏ تابع له، وجملة ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة يقول الإشهاد قيل‏:‏ مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلاً سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك‏؟‏ فأجيب بما ذكر، وقيل وهو الظاهر إنها معطوفة على جملة ‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ الخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل‏:‏ كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطاً فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَصُدُّونَ‏}‏ أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي يطلبون لها انحرافاً، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل‏:‏ المعنى يطلبونها على عوج ونصب ‏{‏عِوَجَا‏}‏ على أنه مفعول به، وقيل‏:‏ على أنه حال ويؤول بمعوجين ‏{‏وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏ أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضرباً من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل‏:‏ إن التكرير للتأكيد وتقديم ‏{‏بالاخرة‏}‏ للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما يوجب التدمير ‏{‏لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ‏}‏ لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك ‏{‏فِى الارض‏}‏ مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب وجعلها بعضهم كناية عن الدنيا ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه، و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة لاستغراق النفي، وجمع ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل‏:‏ وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بياناً لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية ‏{‏يضاعف لَهُمْ العذاب‏}‏ جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب يضعف بالتشديد ‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع‏}‏ أي أنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل‏:‏ العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأساً وإن منعوا إيجاد العبد لشيء مّا، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار‏.‏ بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبماً علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلاً‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏}‏ أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل‏:‏ ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنهم كروهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ بناءاً على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل‏:‏ إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات وبه جمع بين ما هنا؛ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالسيئة‏}‏

‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم‏.‏

وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذاباً للإلف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل‏:‏ إن الجملة بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يضاعف‏}‏ الخ اعتراض وسط بينهما نعياً عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظاً ومعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بتلك القبائح‏.‏

‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل‏:‏ ‏{‏خَسِرُواْ‏}‏ بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة‏.‏

وفي «البحر» أنه على حذف مضاف أي ‏{‏خَسِرُواْ‏}‏ سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة‏.‏

وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من الآلهة وشفاعتها